الاثنين، 14 يونيو 2010

الصيام في الثقافة الإنسانية

بقلم: طه على أحمد
باحث في العلوم السياسية

تحل علينا بعد ايام مناسبة تتكرر كل عام دون أن تنال منا ما تستحق من التأمل، وهي شهر رمضان الذي اختصه الدين الإسلامي بالصوم، ومن هنا يفتح الباب على مصراعيه بخصوص الصوم ومناقبه في التراث الإنساني ذلك أن الصوم لم يكن حكرا على الدين الإسلامي، فمنذ بدء الخليقة والصوم واحدا من ابرز المظاهر التي عرفها البشر على مر التاريخ لأغراض وبأشكال مختلفة. لقد عرف الصوم من قبل كافة المعتقدات السابقة على الديانات السماوية وما تلاها، فقد اعتبرت ممارسة الصوم وسيلة لإعداد الأفراد خاصة (الكهان والكاهنات للتقرب من الآلهة . ففي الديانات الهيلينية كان عبدة اكليبوس إله الطب في الميثولوجيا اليونانية، يعتقدون بأن الإلهة يلهم النبؤات الشافية في الرؤى والأحلام لمن صام بإخلاص شديد من كهنته . كما شاع بين الكولومبيين الأوائل ـ سكان بيروـ اعتبار الصوم كفارة أو عقاب عن الذنوب والخطايا بعد اعتراف الفرد بها أمام الكاهن . وفي العديد من الحضارات القديمة كان الصوم يعتبر وسيلة لرفع غضب الآلهة أو لإعادة بعث إلهة بعد موته، كما هو الحال علي سبيل المثال بالنسبة لرب النبات.
وفي الديانات التقليدية قبل معرفة البشرية للتدوين مورس الصوم غالبا قبل وأثناء طلب الرؤية وقد كان ذلك لدى هنود شمال أمريكا سكان السهول الكبرى وشمال غرب الباسفيك.وقد عرف الصوم عند الهنود الحمر سكان جنوب غرب أمريكا كمظاهر مصاحبة للاحتفالات عند تغيير الفصول الموسمية . وفي جميع الديانات العالمية الرئيسية يعد الصوم لأغراض خاصة أو في أوقات لها قداسة خاصة خاصية مشتركة بينها . وفي اليانية علي سبيل المثال يعد الصوم وفقا لقواعد خاصة وممارسة أنواع معينة من التأمل طريقة أكيدة يصل ممارسها لحالة السمو والارتقاء . وفي الصين حتى عام 1949م كان مألوفا ملاحظة فترة محددة للصوم والانقطاع قبل التضحية في ليلة الانقلاب الشتوي قبل أن يبدأ الإلهة يانج (القوة الموجبة) دورة جديدة. وقد عرفت البوذية الصيام أيضا في أوقات محددة وفق النظام القمري ، ويعتبر اكتمال القمر اي تحوله إلى بدر مبدأ ومنتهى للصيام وفريضة الصيام عند البوذيين تعني الامتناع عن الطعام خاصة المطبوخ منه مع السماح ببعض المشروبات ويمارس البوذيون الصيام كوسيلة من وسائل تطهير الذات الإنسانية وأداة ناجحة لتحرير العقل الإنساني من الأوهام والأساطير وتقوم بعض الفرق البوذية التي تقطن في منطقة التبت بالصوم في سياق التمارين الروحية الخاصة برياضة اليوغا، فالصوم عندهم يولد الطاقة الداخلية التي تساعد النفس على كبح شهواتها واطماعها وتحقيق السكينة والصفاء الذهني.‏ أما الهندوس في الهند فيصومون في الأيام الأولى من الأشهر القمرية ، فضلاً عن الصوم في مناسبات وأعياد خاصة بهم ، مثل أعياد "ساراسواتي بوجا" والصوم عند الهندوس يعتمد على قدرات الفرد ، وقد يمتد ليوم كامل بأكمله ، حيث يمتنع الهندوسيون الأكل والشراب والأطعمة ، وأحياناً يخففون من وطأة الصوم بشرب الماء أو قدر من الحليب . ومن بين المعتقدات جميعها انفردت الزارادشتية بتحريم الصوم لاعتقادها أن هذا النوع من الزهد لا يساعد علي تقوية المؤمن في جهاده ضد الشيطان . أما المصريون القدماء فقد عرفوا الصيام كفريضة دينية يتقربون بها من أرواح الأموات ، ويعتقدون أن صيام الأحياء يرضي الموتى لحرمانهم من طعام الدنيا، وفي الوقت نفسه تضامنا معهم. وفي البهائية يحتفل البهائيون في الثاني من مارس كل عام بالصيام البهائي ، فيقوم الكتاب المقدس لدي البهائيين "الأقدس" : "سبحان الّذي نَزَّلَ الحُكْمَ كيف شآء انّه لهو الحاكم على ما أراد. يا أحبّائي ان اعملوا بما أُمرتم به في الكتاب، قد كُتِبَ لكم الصّيام في شهر العلاء صوموا لوجه ربّكم العزيز المتعال، كفّوا أنفسكم من الطّلوع إلى الغروب…" كما يقول أيضا "يا قلم الأعلى قُل: يا مَلأ الإنشاء قد كُتبَ عليكم الصيام أيام معدودات وجعلنا النيروز عيداً لكم بعد إكمالها. كذلك أضاءت شمس البيان مِن أفق الكتاب مِن لدن مَالك المبدأ والمآب".
وقد جاءت الديانات السماوية (اليهودية – المسيحية- الإسلام) لتؤكد علي حتمية الصيام خلال فترات معينة من العام وإن اختلف مفهوم الصوم ودلالته في كل ديانة . ففي اليهودية يتسع الصوم إتساعاً مطاطياً ، ويتفرع بتفرع اجتهادات أحبار اليهود حول الفرائض والعبادات الواجبة . وقد كانت تلك الاجتهادات مرتبطة ارتباطا وثيقا بالظروف السياسية والاجتماعية التي مر بها اليود على مر التاريخ، وبشكل عام ينقسم الصوم عند اليهود إلى فردي (شخصي) يسمى صوم الأسر يمارسه اليهودي عند نزوله به مصيبة أو حزن أو اقترافه لخطيئة أو جريمة والنوع الآخر صوم جماعي، ويكون في حالات الكرب والحزن والقلق الجماعي من كارثة ما، كأن يصومون في حالة جني محصول سيئ، وفي حالة هجوم أسراب شرسة من الجراد، وتفرض الشريعة اليهودية على أبنائها صيام يوم واحد في السنة ويسمى هذا اليوم "يوم عاشوراء اليهود" ولا يزال حتى يومنا هذا. وبالنسبة للمسيحية فالصوم هو الإمساك عن الطعام لهدفين الأول: من أجل الآخر (الإنسان) والخليقة.والثاني: العلاقة مع الله، فالصوم ليس موضوع طعام وشراب وإنما هو مدرسة تربوية لتهذيب الإنسان روحيا وجسديا فهو يطوع جسده له كي يمتطيه وليس العكس وروحيا كي يتحكم بأهوائه وغرائزه ليبني علاقة قائمة على الإرادة الإلهية أي ما يريده الله منا نحن كبشر، ومن ناحية أخرى هناك ناحية الخليقة فالامتناع عن بعض المأكولات كاللحوم والحليب ومشتقاته هي كي يعيش الإنسان بسلام مع الطبيعة. وترى المسيحية أن الغاية من الصوم ليس الأكل والشرب لأنه ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان وإنما ما يخرج منه ومن ثم فالصوم هو تدريب، يدرب الإنسان ذاته على التحكم بذاته والسيطرة عليها، فيسيطر على غضبه وأهوائه. أما الدين الإسلامي فقد وضع الصوم كأحد أركانه التي لا يقوم إلا بها، فيقول القرءان الكريم "يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". كما اعتبرته السنة النبوية مكفرا عن الذنوب فقد ثبت في الحديث النبوي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ". وفي الواقع فإن الصيام في الإسلام كباقي الأديان السماوية ليس المقصود به الإمساك عن الطعام أو الشراب أو بعض الأمور الأخرى، بل كان من بين العديد من الأهداف التي شرع الصيام من أجلها دور اجتماعي ذات اثر بالغ على الوجود البشري فالصوم وبحسب الطبيعة فيه انكسار وخضوع وذلة أمام الخالق، فتنعكس تلك الحالة شكل تلقائي في النفس وان لم تكن بنفس المستوى تجاه الآخرين، وهذا له آثاره على مستوى القبول بالآخر والتقارب منه والعيش معه والالتفات له والاستماع اليه والعمل الى جانبه ومشاركته في الحياة، وهذا ما يخلق حالة من التضامن الاجتماعي، فالفقير يشعر بالعزة والمساواة مع الغني والعزيز بما يرفع من شأنه بعض الشيء وتصبح هناك إمكانية لكي يعيش الجميع على مقربة من بعض ويتفاهمون في سبيل بناء حياتهم ومجتمعاتهم. وفي صيام رمضان دعوة الى التكافل الاجتماعي من جهة للميسورين تجاه المعدمين بعد التحسس والشعور بعذاباتهم وآلامهم مع اجواء الانكسار وحسن الخلق التي يفرضها الصيام، وهو من جهة ثانية دعوة للتضامن الاجتماعي بين الناس. وفضلا عن التكافل الاجتماعي الذي ينطوي عليه الصيام فإنه ومن بين ما يحث عليه التقرب إلى الخالق من خلال العمل والتفاني من أجل الإنجاز والإضافة التي من شأنها الإعمار على وجه الارض والإضافة إلى الرصيد الحضاري، والتفاعل مع الحضارات الأخرى وصولا إلى الحضارة الإنسانية.
لقد اسرفنا في التفاعل مع شهر رمضان باعتباره مظهر ديني لا يخرج عن كونه عدة ايام يمتنع فيها الناس عن الطعام والشراب لفترات محددة ، ومصحوبة ببعض المظاهر التي اصبحت عئبا على كافة مناحي الحياة فيكفى ان نرف كم ما نستورده من ترفيهيات من حلوى وياميش رمضان حتى يتبين لنا ما يمثله شهر رمضان من عبء على ميزانيتنا القومية، بدلا من أن نجعل منه حافز ودافع للعمل من خلال ما يحمله الصيام من حكمة فيما يتعلق بقيمة العمل والانجاز. والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق