الأحد، 6 ديسمبر 2009

ثورة يوليو في ميزان التاريخ

تمر على الشعب المصري الذكرى السادسة والخمسون على ثورة يوليو التي تحولت فيها مصر ـ لأول مرة على مر تاريخها إلى دولة تحكم على يد أبناءها. وعلى الرغم من الجدل المتواصل حول تلك الحركة التي بدأت بإنقلاب مسلح نفذه مجموعة من ضباط الجيش المصري، إلا أن الحقيقة سوف تظل باقية على مر التاريخ وهي أن من قام بأحداث تلك الليلة مجموعة من المصريين الذين يعتبر التشكيك في مصريتهم وولائهم لهذا البلد بعدا عن الموضوعية ومجانبة للصواب. وعلى الرغم من مرور اكثر من نصف قرن من الزمان على ذلك المنعطف التاريخي في حياة مصر المحروسة إلا أن الحالة العامة لها قد تحركت كثيرا عكس عقاب الساعة وارتدت مخالفة لحركة تطورالتاريخ، فما أبعدنا اليوم عن حالة الليبرالية السياسية والاقتصادية التي عاشتها مصر قبيل ثورة يوليو، وما أبعدنا اليوم عن الديمقراطية التي بدأ التوجه نحوها بعد سنوات قليلة من سقوط نظام يوليو وتولي السادات الحكم عقب رحيل الرئيس جمال عبد الناصر. الأمر الذي يثير تساؤلات عدة حول علاقة تلك الثورة بالحالة المتردية التي نعيشها اليوم، وما إذا كانت ثورة يوليو قد بدأت النواة الأولى للتراجع الذي آلت إليه الأوضاع اليوم، أم أن الثورة وكما يقول أنصارها قد حملت مشروعا أسفر ابتعادنا عنه عن ما وصلنه إليه. ثم يصبح التاريخ وحده هو الميزان الذي تقدر فيه قيمة ما تمخضت عنه تلك الليلة موعودة. فلما كانت تبعات تلك الثورة لا تقل أهمية عن تلك التطورات التي شهدتها أوروبا عقب الثورة الفرنسية، ذلك أن الثورة المصرية لعبت البادرة الأولى لعديد من حركات التحرر في العالم العربي فضلا عن القارة الإفريقية، فإنه من الواجب علينا التعرض إلى تاريخ الثورة بما ترتب عليها من تداعيات على الأصعدة المختلفة.

بداية الأحداث:

لا تقتصر أحداث ثورة يوليو على ما حدث في ليلة الثالث والعشرين من شهر يوليو 1952، بقدر ما يجب النظر إلى ذلك الحدث في ضوء التاريخ المصري والحالة التي وصل إليها المجتع بعد تراكمات امتدت لسنوات طويلة ذاق فيها الشعب المصري كافة أشكال الهوان والظلم والإستبداد سواء من قبل الغزاة الخارجيين، أو من حكامه بالداخل والذين كانت تمتد جذورهم بالأساس ـ دائما وحتى ليلة 23يوليوـ إلى الخارج على مختلف انتماءاتهم ومقاصدهم. وفي الواقع، فإن أحد أهم الأحداث التي كانت لها بالغ الأثر اندلاع شرارة الثورة، هو حرب حرب 1948 وضياع فلسطين التي ظهر بعدها تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة جمال عبد الناصر ليقود التنظيم في إنقلاب مسلح نجح في السيطرة على الأمور في البلاد والسيطرة على المرافق الحيوية في البلاد وأذيع بيانه الأول بصوت أنور السادات وفرض الجيش على الملك التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952.وتم تشكيل مجلس وصاية على العرش إلا أن إدارة الأمور كانت في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابط برئاسة محمد نجيب كانوا هم قيادة تنظيم الضباط الأحرار ثم الغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في 1953. وقد قامت الثورة على مبادئ ستة كانت هي عماد سياستها فيما بعد وهي: 1ـ القضاء على الاقطاع. 2- القضاء على الاستعمار. 3- القضاء على سيطرة رأس المال. 4- إقامة حياة ديمقراطية سليمة. 5- إقامة جيش وطني قوي. 6- إقامة عدالة إجتماعية. وفي الظاهركان قائد الحركة التي سميت فيما بعد بالثورة هو اللواء محمد نجيب و لكن تطورات الأحداث أظهرت صراعا على السلطة نشأ بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، استطاع جمال أن يحسمة إلى صفه في النهاية و حدد إقامة محمد نجيب في منزله لفترة من الوقت. تولى جمال عبد الناصر بعد ذلك حكم مصر من 1954 حتى وفاته عام 1970 واستمد شرعية حكمه من ثورة يوليو.

لقد جاءت الثورة في فترة عرف فيها النظام العالم ثنائية الأقطاب. مما دفع مجموعة العسكر إلى الإستفادة من المناورة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وعلى الرغم مما عرف عن توتر العلاقات بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة إلا أن الوثائق تشير إلى أن ثورة يوليو كان لها بالغ الأثر على منحنى العلاقات بين الطرفين ففي البداية كانت العلاقة ذات حساسية خاصة، وتحديدا في الفترة منذ قيام الثورة حتى عام 1958، وذلك على الرغم من الإعتقاد الذي ساد بأن العلاقة بين مصر والولايات المتحدة قد شابها نوع من التوتر والفتور منذ بداية الثورة حتى نهاية حكم عبد الناصر. فقد شهدت تلك العلاقات في البداية تقاربا بين النظامين في كلا البلدين. ففي البداية عضدت أمريكا جماعة الضباط الأحرار وحالت دون تدخل بريطانيا لإعادة الملك فاروق للحكم، وكانت عاملا أساسيا في مساعدتها في السيطرة على زمام السلطة بشتى الوسائل الممكنة، سواء بصورة علنية أو سرية، بالقلم أو البندقية، وقد أيدتها في خطوة إلغاء دستور 1923 كما أنها باركت إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في 23 يونيو 1953، وقد كان الدافع منوراء تلك المساندة الأمريكية للضباط الأحرار هو الأمل في أن تجد منها صدرا مرحبا بمشاريع الدفاع الغربية التي كانت جل آمال الولايات المتحدة آنذاك، من أجل إحتواء الخطر السوفيتي، لكن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، حيث كاتن هناك العديد من العوامل التي دفعت بالقوى الإقليمية إلى أن تتباعد حفاظا على مكانتها وموضعها. لقد كانت القوى الجديدة الحاكمة في مصر أسيرة ميراث طويل في دور مصر القيادي الرافض للارتباط بالغرب، مما دفع بالقوى العالمية ممثلة في الولايات المتحدة بالسعي إلي شكل جديد لاحتواء الموقف، وكانت مشاريع السلام بين مصر وإسرائيل هي الحل بالنسبة لصانع السياسة الأمريكية، الذي رأى فيها حلا نموذجيا قد يدفع بالقوى الإقليمية لإيقاف الإقتراب من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وأن صفقة السلاح التي مكنت الإتحاد السوفيتي من القفز فوق أسوار الأحلاف الغربية سوف تكون أول وآخر صفقة. حيث استفادت الثورة كثيرا في مرحلة التباعد مع الولايات المتحدة من علاقاتها بالاتحاد السوفيتي.

ولم تشهد تلك المرحلة من تاريخ مصر ما عرفته فيما بعد من مظاهر الفتنة الطائفية. فعلى الرغم من أن حركة الضبات الأحرار قد قامت على تنظيم سري ولم يكن ضمن هذا التنظيم أي قبطي ينتمي إلى الصف الأول إلا أن الأقباط لقد رحبوا شأنهم شأن بقية أبناء الشعب بقيام الثورة. وتمر الأيام تلو الأيام ويغلب على الأقباط التوجس خاصة حول مشاركة الأقباط في حركة الجيش وتحول التوجس إلى قلق وبشكل خاص بعد أن استبعدت الثورة قادة الرأي من الصفوة القبطية سواء بفعل قانون الإصلاح الزراعي أو بالتأميمات. كما أن تغلغل الإخوان المسلمين وازدياد نفوذهم على رجال الثورة أثار شكوك ومخاوف الأقباط ولاسيما أن غالبية الضباط الأحرار كانوا من الإخوان المسلمين. فكان جمال عبد الناصر يقوم بتدريب التنظيم السري العسكري للإخوان المسلمين وإمداده بالسلاح مع أنور السادات بل إن عبد الناصر نفسه كان عضوا في جماعة الإخوان تحت اسم حركي هو عبد القادر زغلول وذلك وفقا لرواية حسن العشماوي المحامي أحد قيادات الإخوان المسلمين آنذاك.

لقد تبنت الثورة فكرة القومية العربية ، وسعت إلى مساندة الشعوب العربية المحتلة للتخلص من الاستعمار ، فجاءت الوحدة مع سوريا واليمن ، كما سعت إلى محاربة الإستعمار بكافة صوره وأشكاله في أفريقيا ، فتزعمت مصر الناصرية عملية تأسيس دول عدم الانحياز.

ولم يستمر النهج الثوري الذي رسمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فعقب رحيله تولى السادات الحكم لتتحول فلسفة الحكم إلى النهج الليبرالي المنفتح على المجتمع الغربي آملا في إزالة آثار العدوان الذي حل على الأمة العربية في الخامس من حزيران 1967. وهنا تتحول القبلة إلى واشنطن بدلا من موسكو التى اعتمد عليها عبد الناصر كثيرا، وعقب حرب اكتوبر 1973 التي حقق فيها الجيش المصري مكاسبا جيدة بدأت عملية التنمية التي اعلن عنها السادات مستندا فيها على الإستقرار السياسي الذي اتكأ على حالة السلام مع اسرائيل، متجاهلا الاعتراضات وموجات النقد التي وجهها إليه الكثير من العرب وصولا إلى حالة المقاطعة لباقي سنوات حكمه والتي انتهت نتيجة الجهود التي قام بها خلفه الرئيس مبارك مما أعاد مصر إلى الطوق العربي. ومن هنا بدأت عجلة التنمية تدور تأسيسا على عملية الإنفتاح الإقتصادي والسياسي التي بادر بها السادات في منتصف السبعينات. إلا أنه ومع تغير طبيعة المرحلة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم وبداية القرن الحالي، حيث كانت الديمقراطية الإصلاح السياسي هماأهم متطلبات المرحلة الجديدة، تواكبا مع الموجة العولمية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقمة هرم النظام العالمي الجديد.

لقد شهد النصف قرن المنصرم جدلا عريضا حول طبيعة ما حدث في ليلة 23يوليو وما إذا كان ذلك يعتبر ثورة أم مجرد انقلاب عسكري قام به مجموعة من المغامرين العسكريين. ووفقا لما يرى علماء الاجتماع بشأن الثورة فإنها تحول جذري ينال كافة أرجاء المجتمع. فعلى الرغم من أن ما قام به مجموعة المغامرين في تلك الليلة مجرد حركة عسكرية، إلا أن ما حدث بعد ذلك الحدث جعلت منه واحدا من أهم ثورات المنطقة بالنظر إلى تبعاتها على المستوى السياسي والإجتماعي. لقد سقط نظام يوليو سياسيا بعد ثمانية عشرا عاما ليحل محله منطق مختلف بادر به الرئيس الراحل أنور السادات الذي لم يتواني عن بث الوعود المتتالية بالجنة الموعودة من فيض التنمية المأمولة وصولا إلى خيبة الأمل التي نرزح في طياتها، الأمر الذي يطرح علينا التساؤلات مرارا وتكرارا: هل حملت ثورة يوليو بذور التدهور الذي نعيشه اليوم؟ أم أنها قد حملت مشروعا أسفر مجانبتنا له عن نفس النتائج؟ أم فشلت المرحلة التالية على ثورة يوليو على مدار حوالي أربعين عام في إصلاح ما أفسدته الحقبة الناصريه على مدار ثمانية عشر عاما فقط؟ وغيرها من التساؤلات التي أعمتنا ذاتيتنا المفرطة عن الإجابة لنترك المهمة للتاريخ والأجيال القادمة لتحكم عليها بينما نكتفي نحن بالإجابة المعهودة " الله أعلم" ..... والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق